فصل: تفسير الآيات (29- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (29- 37):

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)}
في الكلام حذف تقديره: فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس وقومها وألقاه إليهم، كما أمره سليمان. فقيل: أخذه بمنقاره. وقيل: علقه في عنقه، فجاءها حتى وقف على رأسها، وحولها جنودها، فرفرف بجناحيه، والناس ينظرون إليه، حتى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها. وقيل: كانت في قصرها قد غلقت الأبواب واستلقت على فراشها نائمة، فألقي الكتاب على نحرها. وقيل: كانت في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم، فإذا نظرت إليها سجدت، فجاء الهدهد فسدها بجناحه، فرأت ذلك وقامت إليه، فألقى الكتاب إليها، وكانت قارئة عربية من قوم تبع. وقيل: ألقاه من كوة وتوارى فيها.
فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها: {قالت يا أيها الملأ}. وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم، وفي الحديث: «كرم الكتاب ختمه» أو لكونه من سليمان، وكانت عالمة بملكه، أو لكون الرسول به الطير، فظنته كتاباً سماوياً؛ أو لكونه تضمن لطفاً وليناً، لا سباً ولا ما يغير النفس، أو لبداءته باسم الله، أقوال. ثم أخبرتهم فقالت: {إنه من سليمان}، كأنها قيل لها: ممن الكتاب وما هو؟ فقالت: {إنه من سليمان}، وإنه كيت وكيت. أبهمت أولاً ثم فسرت، وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقي، حيث حذفته، أو تحقيراً له، حيث كان طائراً، إن كانت شاهدته. والظاهر أن بداءة الكتاب من سليمان باسم الله الرحمن الرحيم، إلى آخر ما قص الله منه خاصة، فاحتمل أن يكون من سليمان مقدماً على بسم الله، وهو الظاهر، وقدمه لاحتمال أن يندر منها ما لا يليق، إذ كانت كافرة، فيكون اسمه وقاية لاسم الله تعالى. أو كان عنواناً في ظاهر الكتاب، وباطنه فيه بسم الله إلى آخره. واحتمل أن يكون مؤخراً في الكتابة عن بسم الله، وإن ابتدأ الكتاب باسم الله، وحين قرأته عليهم بعد قراءتها له في نفسها، قدمته في الحكاية، وإن لم يكن مقدماً في الكتابة.
وقال أبو بكر بن العربي: كانت رسل المتقدمين إذا كتبوا كتاباً بدأوا بأنفسهم، من فلان إلى فلان، وكذلك جاءت الإشارة. وعن أنس: ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتاباً بدأوا بأنفسهم. وقال أبو الليث في (كتاب البستان) له: ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز، لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه. وقرأ الجمهور: إنه من سليمان، وإنه بكسر الهمزة فيهما. وقرأ عبد الله: وإنه من سليمان، بزيادة واو عطفاً على {إني ألقي}. وقرأ عكرمة، وابن أبي عبلة: بفتحهما، وخرج على البدل من كتاب، أي ألقى إليّ أنه، أو على أن يكون التقدير لأنه كأنها. عللت كرم الكتاب لكونه من سليمان وتصديره ببسم الله.
وقرأ أبي: أن من سليمان وأن بسم الله، بفتح الهمزة ونون ساكنة، فخرج على أن أن هي المفسرة، لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول، وعلى أنها أن المخففة من الثقيلة، وحذفت الهاء وبسم الله الرحمن الرحيم، استفتاح شريف بارع المعنى مبدوء به في الكتب في كل لغة وكل شرع. وأن في قوله: {أن لا تعلوا}، قيل: في موضع رفع على البدل من كتاب. وقيل: في موضع نصب على معنى بأن لا تعلوا، وعلى هذين التقديرين تكون أن ناصبة للفعل. وقال الزمخشري: وأن في {أن لا تعلوا عليّ} مفسرة، فعلى هذا تكون لا في لا تعلوا للنهي، وهو حسن لمشاكلة عطف الأمر عليه. وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير هو أن لا تعلوا، فيكون خبر مبتدأ محذوف. ومعنى لا تعلوا: لا تتكبروا، كما يفعل الملوك. وقرأ ابن عباس، في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي: أن لا تغلوا، بالغين المعجمة، أي ألا تتجاوزوا الحد، وهو من الغلو. والظاهر أنه طلب منهم أن يأتوه وقد أسلموا، وتركوا الكفر وعبادة الشمس. وقيل: معناه مذعنين مستسلمين من الانقياد والدخول في الطاعة، وما كتبه سليمان في غاية الإيجاز والبلاغة، وكذلك كتب الأنبياء.
والظاهر أن الكتاب هو ما نص الله عليه فقط. واحتمل أن يكون مكتوباً بالعربي، إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن، فكتب بالخط العربي واللفظ العربي، لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري. واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به، وكان عندها من يترجم لها، إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان. وروي أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين. وكانت كتب الأنبياء جملاً لا يطيلون ولا يكثرون، وطبع الكتاب بالمسك، وختمه بخاتمة. وروي أنه لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان، ولما قرأت على الملأ الكتاب، ورأت ما فيه من الانتقال إلى سليمان، استشارتهم في أمرها. قال قتادة: وكان أولو مشورتها ثلاثمائة واثني عشر، وعنه: وثلاثة عشر، كل رجل منهم على عشرة آلاف، وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، وذكر عن عسكرها ما هو أعظم وأكثر من هذا، والله أعلم بذلك. وتقدم الكلام في الفتوى في سورة يوسف، والمراد هنا: أشيروا عليّ بما عندكم في ما حدث لها من الرأي السديد والتدبير. وقصدت بإشارتهم: استطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا.
{ما كنت قاطعة أمراً}: أي مبرمة وفاصلة أمراً، {حتى تشهدون}: أي تحضروا عندي، فلا أستبد بأمر، بل تكونون حاضرين معي. وفي قراءة عبد الله: ما كنت قاضية أمراً، أي لا أبت إلا وأنتم حاضرون معي.
وما كنت قاطعة أمراً، عام في كل أمر، أي إذا كانت عادتي هذه معكم، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعاً؟ فراجعها الملأ بما أقرعينها من قولهم: إنهم {أولوا}، أي قوة بالعدد والعدد، {وأولوا بأس شديد}: أي أصحاب شجاعة ونجدة. أظهروا القوة العرضية، ثم القوة الذاتية، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث. ثم قالوا: {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين}، وذلك من حسن محاورتهم، إذ وكلوا الأمر إليها، وهو دليل على الطاعة المفرطة، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه، ومع ذلك فالأمر موكول إليك، كأنهم أشاروا أولاً عليها بالحرب، أو أرادوا: نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن. فانظري ماذا تأمرين به، نرجع إليك ونتبع رأيك، وفانظري من التأمل والتفكر، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى، أي تأمريننا. والجملة معلق عنها انظري، فهي في موضع مفعول لأنظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام.
ولما وصل إليها كتاب سليمان، لا على يد رجل بل على طائر، استعظمت ملك سليمان، وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب، غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت: {إن الملوك إذا دخلوا قرية}: أي تغلبوا عليها، {أفسدوها}: أي خربوها بالهدم والحرق والقطع، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب، وخوف عليهم وحياطة لهم، واستعظام لملك سليمان. والظاهر أن {وكذلك يفعلون} هو من قولها، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل، وكانت ناشئة في بيت الملك، فرأت ذلك وسمعت. ذكرت ذلك تأكيداً لما ذكرت من حال الملوك. وقيل: هو من كلام الله إعلاماً لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته، وتصديقاً لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا.
ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة، قالت: {وإني مرسلة إليهم}، أي إلى سليمان ومن معه، رسلاً {بهدية}، وجاء لفظ الهدية مبهماً. وقد ذكروا في تعيينها أقوالاً مضطربة متعارضة، وذكروا من حيلها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية، وكلامه مع رسلها ما الله أعلم به. و{فناظرة} معطوف على {مرسلة}. و{بم} متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أن الباء متعلقة بناظرة، وهو وهم فاحش، والنظر هنا معلق أيضاً. والجملة في موضع مفعول به، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية، بل جوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان. والهدية: اسم لما يهدى، كالعطية هي اسم لما يعطى. وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكاً دنياوياً، أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبياً، لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه، وفي الكلام حذف تقديره: فأرسلت الهدية، فلما جاء، أي الرسول سليمان، والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد، وكذلك الضمير في ارجع والرسول يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث.
وقرأ عبد الله: فلما جاءوا، وقرأ: ارجعوا، جعله عائداً على قوله: {المرسلون}. و{أتمدونني بمال}: استفهام إنكار واستقلال، وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا، وعدم تعلق قلبه عليه الصلاة والسلام بها.
ثم ذكر نعمة الله عليه، وإن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك خير مما آتاكم، بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون بحبكم الدنيا، والهدية تصح إضافتها إلى المهدي وإلى المهدى إليه، وهي هنا مضافة للمهدى إليه، وهذا هو الظاهر. ويجوز أن تكون مضافة إلى المهدي، أي بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك، فإنكم قدرتم على إهداء مثلها. ويجوز أن تكون عبارة عن الرد، كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها. وقرأ جمهور السبعة: أتمدونني، بنونين، وأثبت بعض الياء. وقرأ حمزة: بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ المسيبي، عن نافع: بنون واحدة خفيفة. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين قولك: أتمدونني بمال وأنا أغني منكم، وبين أن يقوله بالفاء؟ قلت: إذا قلته بالواو، فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى، وهو مع ذلك يمدني بالمال، وإذا قلته بالفاء، فقد جعلته ممن خفيت عنه حالي، وأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده، كأني أقول له: أنكر عليك ما فعلت، فإني غني عنه. وعليه ورد قوله: {فما آتاني الله}. فإن قلت: فما وجه الإضراب؟ قلت: لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو أنهم لا يعرفون سبب رضاً ولا فرح إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها. انتهى.
{ارجع إليهم}: هو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية، وهو المنذر بن عمرو أمير الوفد، والمعنى: ارجع إليهم بهديتهم، وتقدمت قراءة عبد الله: ارجعوا إليهم، وارجعوا هنا لا تتعدى، أي انقلبوا وانصرفوا إليهم. وقيل: الخطاب بقوله: ارجع، للهدهد محملاً كتاباً آخر. ثم أقسم سليمان فقال: {فلنأتينهم بجنود}، متوعداً لهم، وفيه حذف، أي إن لم يأتوني مسلمين. ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفاراً باقين على الكفر إذ ذاك. والضمير في {بها} عائد على الجنود، وهو جمع تكسير، فيجوز أن يعود الضمير عليه، كما يعود على الواحدة، كما قالت العرب: الرجال وأعضادها. وقرأ عبد الله: بهم. ومعنى {لا قبل}: لا طاقة، وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة، أي لا تقدرون أن تقابلوهم. والضمير في منها عائد على سبأ، وهي أرض بلقيس وقومها. وانتصب {أذلة} على الحال. {وهم صاغرون}: حال أخرى. والذل: ذهاب ما كانوا فيه من العز، والصغار: وقوعهم في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً. وفي مجيء هاتين الحالتين دليل على جواز أن يقضي العامل حالين الذي حال واحد، وهي مسألة خلاف، ويمكن أن يقال: إن الثانية هنا جاءت توكيداً لقوله: {أذلة}، فكأنهما حال واحدة.

.تفسير الآيات (38- 44):

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
في الكلام حذف تقديره: فرجع المرسل إليها بالهدية، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان، فتجهزت للمسير إليه، إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي. فروي أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات، بعضها في جوف بعض، في آخر قصر من قصورها، وغلقت الأبواب ووكلت به حراساً يحفظونه، وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم.
قال عبد الله بن شداد: فلما كانت على فرسخ من سليمان، قال: {أيكم يأتيني بعرشها}؟ وقال ابن عباس: كان سليمان مهيباً، لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه. فنظر ذات يوم رهجاً قريباً منه فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس، فقال ذلك. واختلفوا في قصد سليمان استدعاء عرشها. فقال قتادة، وابن جريج: لما وصف له عظم عرشها وجودته، أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويمنع أخذ أموالهم، والإسلام على هذا الدين، وهذا فيه بعد أن يقع ذلك من نبي أوتي ملكاً لم يؤته غيره. وقال ابن عباس، وابن زيد: استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله، وليغرب عليها سليمان والإسلام على هذا الاستسلام. وأشار الزمخشري لقول فقال: ولعله أوحي إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ويصدقها. انتهى. وقال الطبري: أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله: {ولها عرش عظيم}، وهذا فيه بعد، لأنه قد ظهر صدقة في حمل الكتاب، وما ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها وبعثها بالهدية. وقيل: أراد أن يؤتي به، فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره، اختباراً لعقلها. والظاهر ترتيب هذه الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود، وهو قول الجمهور. وعن ابن عباس أنه قال: {أيكم يأتيني بعرشها}؟ حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال: {ولها عرش عظيم}. ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير، وفي قوله: {أيكم يأتيني بعرشها} دليل على جواز الاستعانة ببعض الاتباع في مقاصد الملوك، ودليل على أنه قد يخص بعض أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم، ودليل على مبادرة من طلبه منه الملوك قضاء حاجة، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس، وقدرتهم بأقدار الله على ما يبعد فعله من الإنس. وقرأ الجمهور: عفريت، وأبو حيوة: بفتح العين. وقرأ أبو رجاء، وأبو السماك، وعيسى، ورويت عن أبي بكر الصديق: عفرية، بكسر العين، وسكون الفاء، وكسر الراء، بعدها ياء مفتوحة، بعدها تاء التأنيث. وقال ذو الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية ** مصوّب في سواد الليل مقتضب

وقرأت فرقة: عفر، بلا ياء ولا تاء، ويقال في لغة طيئ وتميم: عفراة بالألف وتاء التأنيث، وفيه لغة سادسة عفارية، ويوصف بها الرجل، ولما كان قد يوصف به الإنس خص بقوله من الجن. وعن ابن عباس: اسمه صخر. وقيل: كوري. وقيل: ذكران. و{آتيك}: يحتمل أن يكون مضارعاً واسم فاعل. وقال قتادة، ومجاهد، ووهب: {من مقامك}: أي من مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم. وقيل: قبل أن تستوي من جلوسك قائماً. {وإني عليه}: أي على الإتيان به لقوي على حمله؛ {أمين}: لا أختلس منه شيئاً. قال الحسن: كان كافراً، لكنه كان مسخراً، والعفريت لا يكون إلا كافراً.
{قال الذي عنده علم من الكتاب}، قيل: هو من الملائكة، وهو جبريل، قاله النخعي. والكتاب: اللوح المحفوظ، أو كتاب سليمان إلى بلقيس. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: هو رجل من الإنس، واسمه آصف بن برخيا، كاتب سليمان، وكان صديقاً عالماً قاله الجمهور. أو اسطوام، أو هود، أو مليخا، قاله قتادة. أو اسطورس، أو الخضر عليه السلام، قاله ابن لهيعة. وقالت جماعة: هو ضبة بن ادجد بني ضبة، من العرب، وكان فاضلاً يخدم سليمان، كان على قطعة من خيله، وهذه أقوال مضطربة، وقد أبهم الله اسمه، فكان ينبغي أن لا يذكر اسمه حتى يخبر به نبي. ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه السلام، كأنه يقول لنفسه: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}، أو يكون خاطب بذلك العفريت، حكى هذا القول الزمخشري وغيره، كأنه استبطأ ما قال العفريت، فقال له سليمان ذلك على تحقير العفريت. والكتاب: هو المنزل من عند الله، أو اللوح المحفوظ، قولان. والعلم الذي أوتيه، قال: اسم الله الأعظم وهو: يا حي يا قيوم. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام. وقيل بالعبرانية: أهيا شراهيا. وقال الحسن: الله ثم الرحمن. والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة، وأنه أقصر في المدة من مدة العفريت، ولذلك روي أن سليمان قال: أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت، ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال البصر، كما قال الشاعر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً ** لقلبك يوماً أتعبتك المناظر

وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد. فالمعنى أنك ترسل طرفك، فقبل أن ترده أتيتك به، وصار بين يديك. فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد طرفه فنظر نحو اليمن، فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله، قبل أن يرد طرفه. وقال ابن جبير، وقتادة: قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى. وقال مجاهد: قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض، وذلك ارتداده.
قال ابن عطية: وهذان القولان يقابلان قول من قال: إن القيام هو من مجلس الحكم، ومن قال: إن القيام هو من الجلوس، فيقول في ارتداد الطرف هو أن تطرف، أي قبل أن تغمض عينيك وتفتحهما، وذلك أن الثاني يعطي الأقصر في المدة ولا بد. انتهى. وقيل: طرفك مطروفك، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك. وقال الماوردي: قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت، فخبره أنه سيأتيه قبل موته، وهذا تأويل بعيد، بل المعنى آتيك به سريعاً. وقيل: ارتداد الطرف مجاز هنا، وهو من باب مجاز التمثيل، والمراد استقصار مدة الإتيان به، كما تقول لصاحبك: افعل كذا في لحظة، وفي ردة طرف، وفي طرفة عين، تريد به السرعة، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت.
{فلما رآه مستقراً} عنده: في الكلام حذف تقديره: فدعا الله فأتاه به، فلما رآه: أي عرش بلقيس. قيل: نزل على سليمان من الهواء. وقيل: نبع من الأرض. وقيل: من تحت عرش سليمان، وانتصب مستقراً على الحال، وعنده معمول له. والظرف إذا وقع في موضع الحال، كان العامل فيه واجب الحذف. فقال ابن عطية: وظهر العامل في الظرف من قوله: {مستقراً}، وهذا هو المقدر أبداً في كل ظرف وقع في موضع الحال. وقال أبو البقاء: ومستقراً، أي ثابتاً غر متقلقل، وليس بمعنى الحضور المطلق، إذ لو كان كذلك لم يذكر. انتهى. فأخذ في مستقراً أمراً زائداً على الاستقرار المطلق، وهو كونه غير متقلقل، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالاً؛ وقد قدر ذكر العامل في ما وقع خبراً من الجار والمجرور التام في قول الشاعر:
لك العزان مولاك عزوان يهن ** فأنت لدى بحبوحة الهون كائن

{قال هذا من فضل ربي}: أي هذا الإتيان بعرشها، وتحصيل ما أردت من ذلك، هو من فضل ربي عليّ وإحسانه، ثم علل ذلك بقوله: {ليبلوني أأشكر أم أكفر}. قال ابن عباس: المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني. انتهى. وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر، إذ ذاك نعمة متجددة، والشكر قيد للنعم. وأأشكر أم أكفر في موضع نصب ليبلوني، وهو معلق، لأنه في معنى التمييز، والتمييز في معنى العلم، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم، وإن لم يكن مرادفاً له، لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار. {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه}: أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه، إذ كان قد صان نفسه عن كفران النعمة، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه.
{ومن كفر}: أي فضل الله ونعمته عليه، فإن ربي غني عن شكره، لا يعود منفعتها إلى الله، لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته. والظاهر أن قوله: {فإن ربي غني كريم} هو جواب الشرط، ولذلك أضمر فاء في قوله: {غني}، أي عن شكره. ويجوز أن يكون الجواب محذوفاً دل عليه ما قبله من قسيمه، أي ومن كفر فلنفسه، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه. ويجوز أن تكون ما موصولة، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط.
{قال نكروا لها عرشها}. روي أن الجن أحست من سليمان، أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة، وأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش، ورجلها بالصرح، لتكشف عن ساقيها عنده. وتنكير عرشها، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: بأن زيد فيه ونقص منه. وقيل: بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر. وقيل: بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره. والتنكير: جعله متنكراً متغيراً عن شكله وهيئته، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه. وقرأ الجمهور: ننظر: بالجزم على جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة: بالرفع على الاستئناف. أمر بالتنكير، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر، ومتعلق أتهتدي محذوف. والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحاً في معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان عليه السلام إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراساً.
{فلما جاءت}، في الكلام حذف، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه. {فلما جاءت قيل أهكذا عرشك}: أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك؟ ولم يأت التركيب: أهذا عرشك؟ جاء بأداة التشبيه، لئلا يكون ذلك تلقيناً لها. ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه، وتميزت فيه أشياء من عرشها، لم تجزم بأنه هو، ولا نفته النفي البالغ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت: {كأنه هو}، وذلك من جودة ذهنها، حيث لم تجزم في الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه، وقابلت تشبيههم بتشبيهها. والظاهر أن قوله: {وأوتينا العلم} إلى قوله: {من قوم كافرين} ليس من كلام بلقيس، وإن كان متصلاً بكلامها. فقيل: من كلام سليمان. وقيل: من كلام قوم سليمان وأتباعه. فإن كان من قول سليمان فقيل: العلم هنا مخصوص، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة. {من قبلها} أي من قبل مجيئها.
{وكنا مسلمين}: موحدين خاضعين. وقال ابن عطية: وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو، وقال سليمان عند ذلك: {وأوتينا العلم من قبلها} الآية، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى، وإنما قال ذلك بما علمت هي وفهمت، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه. انتهى ملخصاً. وقال الزمخشري: وأوتينا العلم من كلام سليمان وملائه، فإن قلت: علام عطف هذا الكلام وبما اتصل؟ قلت: لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها، وأجابت بما أجابت به مقاماً، أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم: {وأوتينا العلم}، نحو أن يقولوا عند قولها: {كأنه هو}، قد أصابت في جوابها، فطبقت المفصل، وهي عاقلة لبيبة، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر.
وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها، ولم نزل نحن على دين الإسلام، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة. ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها {كأنه هو}، والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة، أو قبل هذه الحالة، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام. ثم قال الله تعالى: {وصدها} قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل. وقيل: وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل. انتهى. أما قوله: ويجوز أن يكون من كلام بلقيس، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجواز. قيل: والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة، يعني إحضار العرش. وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك. والظاهر أن الفاعل بصدّها هو قوله: {ما كانت تعبد}، وكونه الله أو سليمان، وما مفعول صدّها على إسقاط حرف الجر، قاله الطبري، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، نحو قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا

أي عن الديار، وليس من مواضع حذف حرف الجر. وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه، الظاهر أنه الإسلام. وقال الرماني: التقدير التفطن للعرش، لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث. والظاهر أن قوله: {وصدها} معطوف على قوله: {وأوتينا}، إذا كان من كلام سليمان، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمد نبيه ولأمته. وإن كان وأوتينا من كلام بلقيس، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله: {أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}. والواو في صدها للحال، وقد مضمرة مرغوب عنه لطول الفصل بينهما، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة.
وقرأ الجمهور: إنها بكسر الهمزة، وسعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: بفتحها، فإما على تقدير حرف الجر، أي لأنها، وإما على أن يكون بدلاً من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد.
قال محمد بن كعب القرظي وغيره: لما وصلت بلقيس، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحاً، وهو السطح في الصحن من غير سقف، وجعلته مبنياً كالصهريج ومليء ماء، وبث فيه السمك والضفادع، وجعل لسليمان في وسطه كرسي. فلما وصلته بلقيس، {قيل لها ادخلي} إلى النبي عليه السلام، فرأت اللجة وفزعت، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فكشفت عن ساقها، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن. فلما بلغت هذا الحد، قال لها سليمان: {إنه صرح ممرد من قوارير}، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأدغنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم. وفي هذه الحكاية زيادة، وهو أنه وضع سريره في صدره وجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجن والإنس. قال الزمخشري: وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وثباتاً على الدين. انتهى. والصرح: كل بناء عال، ومنه: {ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب} وهو من التصريح، وهو الإعلان البالغ. وقال مجاهد: الصرح هنا: البركة. وقال ابن عيسى: الصحن، وصرحة الدار: ساحتها. وقيل: الصرح هنا: القصر من الزجاج؛ وفي الكلام حذف، أي فدخلته امتثالاً للأمر. واللجة: الماء الكثير. وكشف ساقيها عادة من كان لابساً وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له، ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر، وحصل كشف الساق على سبيل التبع، إلا أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصوداً. وقرأ ابن كثير: قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز، قال أبو علي: وهي ضعيفة، وكذلك في قراءة قنبل: يكشف عن سأق، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة. حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة، وأنشد:
أحب المؤقدين إلى موسى

والظاهر أن الفاعل قال هو سليمان، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح. وظلمها نفسها، قيل: بالكفر، وقيل: بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها. وقال ابن عطية: ومع، ظرف بني على الفتح، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى. انتهى، والصحيح أنها ظرف، فتحت العين أو سكنت، وليس التسكين مخصوصاً بالشعر، كما زعم بعضهم، بل ذلك لغة لبعض العرب، والظرفية فيها مجاز، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة.